( 1 )
(الفنان ملزم بأن يكون مبدعاً حرا وليس سجينا حراً ) .. ماليفيتش
…….
سجل تاريخ الفن أن ” موندريان ” و ” كاندنسكي” ومن قبلهما المصور الروسي ” كازيمير ماليفيتش ” ( 1878-1935 ) Kasimir Malevich هم أهم رواد المذهب الفلسفي اللاموضوعي الذي بلغ قمة جماله الهندسي علي يد كل من ” موندريان ” و ” ماليفيتش ” ، حيث ابتكر ثلاثي التجريدية منذ بداية وحتى منتصف عام 1910 لغة جديدة وتكوينات بعيدة الصلة عن الواقع المرئي ، ومع أن كل من الثلاثة كان يعمل بشكل مستقل عن الآخر إلا أنهم اجتمعوا علي الإيمان بأن التصوير اللاموضوعي له القدرة علي إثارة واستثارة خبرة روحية ، معتبرين أن الفن هو فى المقام الأول بحث ميتافيزيقي عن الحقيقة العليا ، ففي حوالي عام 1915 تمرد ” ماليفيتش ” تمرداً كبيراً ولاذعاً على كل صور وأشكال الفن السابقة ، وابتكر رؤية تجريدية جديدة مستقلة بلغة خاصة ، وكان ” سوبرماتيزم ” Suprematism هو مسمى أطلقه على تلك الأعمال المحتوية علي شكل هندسي خالص وملون بأحد الألوان الأساسية علي أرضية بيضاء ، معبراً عن حالة من ( التسامي ) فوق الواقع ، وإحساس بمنتهي السعادة والمتعة لما تحتويه أعماله من أشكال مبسطة غير محددة المدلول ، من شأنها إستدعاء مشاعر التحليق أو الطفو ، كما لو كان يوجه تخيلات المشاهد وينقله بحرية إلي بعد آخر ، منادياً بكل من الروحانية واللاشعورية والعقلانية فى مواجهة الواقع المادي.
أخذت أعمال ” ماليفيتش ” تتجه إلى الخصوصية والابتعاد عن أساليب المدارس المختلفة مع التأكيد علي التلخيص الهندسي والإعتماد على جماليات الخط المستقيم ، ولقد بدأ يؤكد علي نظريته الفنية بداية من عام 1913 معتمداً علي المفردات الأولية للهندسة مثل الخط والمثلث والدائرة والمربع ، ويعتبر ( المربع ) هو العنصر الأساسي في السوبرماتية لأنه شكل كامل وجوهري متأصل في الطبيعة ، واستخدامه في العمل الفني يعني الرجوع لكمال البنية الأولية بديلاً عن العالم الظاهري المرفوض ، وفي لوحات “ماليفيتش” وطبقا لمعتقده وضع مربعاً أسوداً علي أرضية بيضاء معتقداً أن المربع الذي وضعه ليس خاوياً ، انه حقاً فارغ من الصورة ، لكنه ممتليء بالمعني.
ولد ” ماليفيتش ” بالقرب من مدينة ” كييف ” فى عام 1878 وتوفي فى ” ليننجراد ” عام 1935 ، بدأ حياته الفنية متأثراً بالفنون البدائية وبمصوري ما بعد التأثيرية post-impressionism ، والمتتبع لمراحل ” ماليفيتش ” الفنية سوف يجده قد مر بتجارب تصويرية فى معظم الإتجاهات الفنية الحديثة بداية من التأثيرية ، ثم تطور اسلوبه ليستقر فترة عند المدرسة المستقبلية Futurism .
في عام 1904 وبعد إنتقاله مع أسرته إلى موسكو ، درس الصور ( الأيكونات ) الدينية هناك بشغف شديد حتى أثّرت في تطور نظرته العامة للتصوير مضيفة بعداً عاطفيا تجاه إحساسه بالفن والحياة ، بعدها خاض في موسكو العديد من الدراسات الفنية والمعمارية وإشترك فى العديد من معارض الفن هناك ، إستمر ذلك حتى حوالي عام 1912 ، وما ان إهتم ” ماليفيتش ” بالتكعيبية مع بداية عام 1913 إلا وسيطرت عليه مبادئ المدرسة المستقبلية وإعتبرها الطريق الأمثل لإنتاج فن جديد وحقيقي منافٍ للغة التصوير الروسي السائدة حينذاك ، ونفذ بالفعل عدداً كبيراً من اللوحات المنتمية لهذا الإتجاه غلبت عليها التشخيصية ولكن المغلفة بطابع معدني آلي قريب الشبه من أعمال التكعيبي الفرنسي ” ليجيه ” (1881-1955) Leger ، وهو ما يتضح فى لوحته ” قاطع الأخشاب ” ، وكانت له أعمال أخرى هندسية تركيبية تتداخل فيها الحروف اللاتينية مع الكولاج كما فى لوحتيه ” إنجليزي في موسكو” ، ” جندي في الترتيب الأول ” ، أصبح ” ماليفيتش ” حتى عام 1914 شخصية أساسية في كل معارض الفنانين المستقبليين الطليعيين Avant-garde واللذين كانوا بمثابة أنبياء مبشرين بميلاد عهد جديد للفن ، تزامن ذلك مع بداية إندلاع الحرب العالمية الأولى .
قاطع الأخشاب – 1912- أمستردام
إنجليزي فى موسكو – 1914 - أمستردام
جندي فى الترتيب الأول – 1914 - نيويورك
كانا 1913 و 1914 عامين للتحول الفكري لدى ماليفيتش ، إعتملت خلالهما بداخله العديد من الأفكار وإمتزجت مع خبرته الفنية وتمرده الداخلي ، خاصة بعد إعلانه للمانيفستو الأول للمستقبلية ، وإشتراكه فى تصميم ديكورات وملابس أوبرا المستقبلية victory over the sun التى عرضت على مسرح ” لونا بارك ” في مدينة ” سان بترسبرج ” و كانت بمثابة نقطة التحول والبداية الحقيقية لثورته ضد المستقبلية وكل أشكال الفن القديمة حيث صمم ديكوراً للأوبرا فائم على تصميمات لأشكال هندسية بحتة متشابكة فى تقاطعات مقتصرة على الأبيض والأسود أوحت له فيما بعد بالفكر السوبرماتي.
تخطيطات أولية لديكور الأوبرا
تخطيطات أولية لديكور الأوبرا
تخطيطات أولية لملابس الشخصيات في الأوبرا
.
تزامن هذا أيضا مع تأثره بفلسفة علم الرياضيات والهندسة المغاير للهندسة التي قام عليها التصوير في عصر النهضة ، مما كان له عظيم الأثر في توجيه مسار الفنون البصرية نحو إنقلاب كلي شكلاً ومضموناً ، وتحطيم المفاهيم الثابتة لتحل محلها صورة مغايرة تتداخل فيها الخطوط وتتقابل وتتجاذب وتتقاطع حيث يُستشَعر الحركة الداخلية للعناصر كما حدث فى التكغيبية والمستقبلية وكل صور الفن الحديث.
1915 كان تاريخ المعرض الثاني للمستقبليين في سان بترسبرج ( أو بتروجراد حسب التسمية المؤقتة للمدينة إبان الغزو الألماني والحرب العالمية الأولى ) المعرض حمل عنوان ” صفر-عشرة ” (( 0.10 )) وفيه قرر ” ماليفيتش ” أن يعرض أول مجموعة من أعماله اللاموضوعية والتى وصفها ” بواقعية الصورة الجديدة ” ، وقدم حوالي 35 لوحة من الهندسيات النقية الأساسية شكلاً ولوناً ، سيطر عليها عمله الشهير ” مربع أسود ” أو Four-Cornered Figure ووضعه فى أعلى الزاوية بحائط القاعة بحيث يتوسط بقية اللوحات كعلامة دالة غلى مفهوم السوبرماتية.
وللقصة بقية …….
القاعة الخاصة بعرض لوحات ماليفيتش في معرض ( 0.10 ) عام 1915 ، وبداية السوبرماتيزم
………………….
أ